فصل: تفسير الآيات رقم (53- 57)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 108‏]‏

‏{‏أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ‏(‏102‏)‏ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ‏(‏103‏)‏ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ‏(‏104‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ‏(‏105‏)‏ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ‏(‏106‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ‏(‏107‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَحَسِبَ الذين كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَاء‏}‏ أي أفظن الكفار اتخاذهم عبادي يعني الملائكة وعيسى عليهم السلام أولياء نافعهم بئس ما ظنوا‏.‏ وقيل‏:‏ «أن» بصلتها سد مسد مفعولي ‏{‏أفحسب‏}‏ و‏{‏عبادي أولياء‏}‏ مفعولاً ‏{‏أن يتخذوا‏}‏ وهذا أوجه يعني أنهم لا يكونون لهم أولياء ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ للكافرين نُزُلاً‏}‏ هو ما يقام للنزيل وهو الضيف ونحوه فبشرهم بعذاب أليم ‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بالأخسرين أعمالا‏}‏ ‏{‏أعمالاً‏}‏ تمييز‏.‏ وإنما جمع والقياس أن يكون مفرداً لتنوع الأهواء وهم أهل الكتاب أو الرهبان ‏{‏الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ‏}‏ ضاع وبطل وهو في محل الرفع أي هم الذين ‏{‏فِى الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُوْلَئِكَ الذين كَفَرُواْ بئايات رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً‏}‏ فلا يكون لهم عندنا وزن ومقدار ‏{‏ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏ هي عطف بيان لجزاؤهم ‏{‏بِمَا كَفَرُواْ واتخذوا ءاياتى وَرُسُلِى هُزُواً‏}‏ أي جزاؤهم جهنم بكفرهم واستهزائهم بآيات الله ورسوله‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جنات الفردوس نُزُلاً خالدين فِيهَا‏}‏ حال ‏{‏لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً‏}‏ تحولاً إلى غيرها رضا بما أعطوا‏.‏ يقال‏:‏ حال من مكانه حولاً أي لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم، وهذه غاية الوصف لأن الإنسان في الدنيا في أي نعيم كان فهو طامح مائل الطرف إلى أرفع منه، أو المراد نفي التحول وتأكيد الخلود

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 110‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ‏(‏109‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لَّوْ كَانَ البحر‏}‏ أي ماء البحر ‏{‏مِدَاداً لكلمات رَبّى‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ المداد‏:‏ ما يكتب به أي لو كتبت كلمات علم الله وحكمته وكان البحر مداداً لها والمراد بالبحر الجنس ‏{‏لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ‏}‏ بمثل البحر ‏{‏مَدَداً‏}‏ لنفد أيضاً والكلمات غير نافدة‏.‏ و‏{‏مدداً‏}‏ تمييز نحو «لي مثله رجلاً» والمدد مثل المداد وهو ما يمد به‏.‏ ‏{‏ينفد‏}‏ حمزة وعلي، وقيل‏:‏ قال حيي بن أخطب‏:‏ في كتابكم ‏{‏ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 269‏]‏ ثم تقرؤون ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ فنزلت يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ‏}‏ فمن كان يأمل حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضاً وقبول، أو فمن كان يخاف سوء لقاء ربه والمراد باللقاء القدوم عليه‏.‏ وقيل‏:‏ رؤيته كما هو حقيقة اللفظ والرجاء على هذا مجرى على حقيقته ‏{‏فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا‏}‏ خالصاً لا يريد به إلا وجه ربه ولا يخلط به غيره‏.‏ وعن يحيى بن معاذ‏:‏ هو ما لا يستحي منه ‏{‏وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا‏}‏ هو نهي عن الشرك أو عن الرياء قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اتقوا الشرك الأصغر ‏"‏ قالوا‏:‏ وما الشرك الأصغر قال‏:‏ ‏"‏ الرياء ‏"‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من قرأ سورة الكهف فهو معصوم ثمانية أيام من كل فتنة تكون فإن يخرج الدجال في تلك الثمانية عصمه الله من فتنة الدجال، ومن قرأ ‏{‏قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ‏}‏ إلى آخرها عند مضجعه كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم من مضجعه، وإن كان مضجعه بمكة فتلاها كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه ويستغفرون له حتى يستيقظ ‏"‏‏.‏

سورة مريم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏كهيعص ‏(‏1‏)‏ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ‏(‏2‏)‏ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ‏(‏3‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏كهيعص‏}‏ قال السدي‏:‏ هو اسم الله الأعظم، وقيل‏:‏ هو اسم للسورة‏.‏ قرأ علي ويحيى بكسر الهاء والياء، ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب، وأبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء، وحمزة بعكسه، وغيرهم بفتحهما ‏{‏ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ‏}‏ خبر مبتدأ أي هذا ذكر ‏{‏عَبْدَهِ‏}‏ مفعول الرحمة ‏{‏زَكَرِيَّا‏}‏ بالقصر‏:‏ حمزة وعلي وحفص وهو بدل من ‏{‏عبده‏}‏ ‏{‏إِذْ‏}‏ ظرف للرحمة ‏{‏نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً‏}‏ دعاه دعاء سرا كما هو المأمور به وهو أبعد عن الرياء وأقرب إلى الصفاء، أو أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في أوان الكبر لأنه كان ابن خمس وسبعين أو ثمانين سنة ‏{‏قَالَ رَبّ‏}‏ هذا تفسير الدعاء وأصله «يا ربي» فحذف حرف النداء والمضاف إليه اختصاراً ‏{‏إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى‏}‏ ضعف‏.‏ وخص العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته ولأنه أشد ما فيه وأصلبه فإذا وهن كان ما وراءه أوهن، ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية والمراد أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن،

‏{‏واشتعل الرأس شَيْباً‏}‏ تمييز أي فشا في رأسي الشيب واشتعلت النار إذا تفرقت في التهابها وصارت شعلاً، فشبه الشيب بشواظ النار في بياضه وانتشاره في الشعر وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار‏.‏ ولا ترى كلاماً أفصح من هذا، ألا ترى أن أصل الكلام يا رب قد شخت إذ الشيخوخة تشتمل على ضعف البدن وشيب الرأس المتعرض لهما، وأقوى منه ضعف بدني وشاب رأسي ففيه مزيد التقرير للتفصيل، وأقوى منه وهنت عظام بدني، ففيه عدول عن التصريح إلى الكناية فهي أبلغ منه، وأقوى منه أنا وهنت عظام بدني، وأقوى منه إني وهنت عظام بدني، وأقوى منه إني وهنت العظام من بدني ففيه سلوك طريقي الإجمال والتفصيل، وأقوى منه إني وهنت العظام مني ففيه ترك توسيط البدن، وأقوى منه ‏{‏إني وهن العظم مني‏}‏ لشمول الوهن العظام فرداً فرداً باعتبار ترك جمع العظم إلى الإفراد لصحه حصول وهن المجموع بالبعض دون كل فرد فرد، ولهذا تركت الحقيقة في شاب رأسي إلى أبلغ وهي الاستعارة فحصل اشتعل شيب رأسي، وأبلغ منه اشتعل رأسي شيباً لإسناد الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس لإفادة شمول الاشتعال الرأس إذ وزان اشتعل شيب رأسي واشتعل رأسي شيباً، وزان اشتعل النار في بيتي واشتعل بيتي ناراً والفرق نير، ولأن فيه الإجمال والتفصيل كما عرف في طريق التمييز، وأبلغ منه واشتعل الرأس مني شيباً لما مر، وأبلغ منه ‏{‏واشتعل الرأس شيباً‏}‏ ففيه اكتفاء بعلم المخاطب إنه رأس زكريا بقرينة العطف على ‏{‏وهن العظم‏}‏ ‏{‏وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ‏}‏ مصدر مضاف إلى المفعول أي بدعائي إياك ‏{‏رَبّ شَقِيّاً‏}‏ أي كنت مستجاب الدعوة قبل اليوم سعيداً به غير شقي فيه‏.‏ يقال‏:‏ سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها وشقي إذا خاب ولم ينلها‏.‏ وعن بعضهم أن محتاجاً سأله وقال‏:‏ أنا الذي أحسنت إلي وقت كذا فقال‏:‏ مرحباً بمن توسل بنا إلينا وقت حاجته وقضى حاجته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنّي خِفْتُ الموالى‏}‏ هم عصبته أخوته وبنو عمه وكانوا شرار بني إسرائيل فخافهم أن يغيروا الدين وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته فطلب عقباً صالحاً من صلبه يقتدي به في إحياء الدين ‏{‏مِن وَرَائِى‏}‏ بعد موتي، وبالقصر وفتح الياء ك ‏{‏هداي‏}‏‏:‏ مكى‏.‏ وهذا الظرف لا يتعلق ب ‏{‏خفت‏}‏ لأن وجود خوفه بعد موته لا يتصور ولكن بمحذوف، أو بمعنى الولاية في الموالي أي خفت فعل الموالي وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي، أو خفت الذين يلون الأمر من ورائي ‏{‏وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا‏}‏ عقيماً لا تلد ‏{‏فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ‏}‏ اختراعا منك بلا سبب لأن امرأتي لا تصلح للولادة ‏{‏وَلِيّاً‏}‏ ابنا يلي أمرك بعدي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ‏(‏6‏)‏ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ‏(‏7‏)‏ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏يَرِثُنِى وَيَرِثُ‏}‏ برفعهما صفة ل ‏{‏ولياً‏}‏ أي هب لي ولداً وارثاً مني العلم ومن آل يعقوب النبوة، ومعنى وراثة النبوة أنه يصلح لأن يوحى إليه ولم يرد أن نفس النبوة تورث‏.‏ ويجزمهما‏:‏ أبو عمرو وعلي على أنه جواب للدعاء يقال‏:‏ ورثته وورثت منه ‏{‏مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ‏}‏ يعقوب بن إسحاق ‏{‏واجعله رَبّ رَضِيّاً‏}‏ مرضياً ترضاه أو راضياً عنك وبحكمك فأجاب الله تعالى دعاءه وقال‏:‏ ‏{‏يازكريا إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى‏}‏ تولى الله تسميته تشريفاً له‏.‏ ‏{‏نبشرك‏}‏ بالتخفيف‏:‏ حمزة ‏{‏لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً‏}‏ لم يسم أحد بيحيى قبله وهذا دليل على أن الاسم الغريب جدير بالأثرة‏.‏ وقيل‏:‏ مثلاً وشبيها ولم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط وأنه ولد بين شيخ وعجوز وأنه كان حصوراً، فلما بشرته الملائكة‏.‏ به

‏{‏قَالَ رَبّ أنّى‏}‏ كيف ‏{‏يَكُونُ لِي غلام‏}‏ وليس هذا باستبعاد بل هو استكشاف أنه بأي طريق يكون أيوهب له وهو وامرأته بتلك الحال أم يحولان شابين ‏{‏وَكَانَتِ امرأتى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً‏}‏ أي بلغت عتيا وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود اليابس من أجل الكبر والطعن في السن العالية ‏{‏عتياً‏}‏ و‏{‏صلياً‏}‏ و‏{‏جثياً‏}‏ و‏{‏بكياً‏}‏ بكسر الأوائل‏:‏ حمزة وعلي وحفص إلا في ‏{‏بكيا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 13‏]‏

‏{‏قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ‏(‏9‏)‏ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ‏(‏10‏)‏ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ‏(‏11‏)‏ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ‏(‏12‏)‏ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ كذلك‏}‏ الكاف رفع أي الأمر كذلك تصديق له ثم ابتدأ ‏{‏قَالَ رَبُّكِ‏}‏ أو نصب ب ‏{‏قال‏}‏ وذلك إشارة إلى مبهم يفسره ‏{‏هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ‏}‏ أي خلق يحيى من كبيرين سهل ‏{‏وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ‏}‏ أو جدتك من قبل يحيى‏.‏ ‏{‏خلقناك‏}‏ حمزة وعلي ‏{‏وَلَمْ تَكُ شَيْئاً‏}‏ لأن المعدوم ليس بشيء ‏{‏قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً‏}‏ علامة أعرف بها حبل امرأتي ‏{‏قَالَ ءايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِياً‏}‏ حال من ضمير تكلم أي حال كونك سوى الأعضاء واللسان يعني علامتك أن تمنع الكلام فلا تطيقه وأنت سليم الجوارح ما بك خرس ولا بكم‏.‏ ودل ذكر الليالي هنا والأيام في «آل عمران» على أن المنع من الكلام استمر به ثلاثة أيام ولياليهن، إذ ذكر الأيام يتناول ما بإزائها من الليالي وكذا ذكر الليالي يتناول ما بإزائها من الأيام عرفاً ‏{‏فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب‏}‏ من موضع صلاته وكانوا ينتظرونه ولم يقدر أن يتكلم ‏{‏فأوحى إِلَيْهِمْ‏}‏ أشار بإصبعه ‏{‏أَن سَبّحُواْ‏}‏ صلوا و«أن» هي المفسرة ‏{‏بُكْرَةً وَعَشِيّاً‏}‏ صلاة الفجر والعصر ‏{‏يَا يحيى‏}‏ أي وهبنا له يحيى وقلنا له بعد ولادته وأوان الخطاب يا يحيى ‏{‏خُذِ الكتاب‏}‏ التوراة ‏{‏بِقُوَّةٍ‏}‏ حال أي بجد واستظهار بالتوفيق والتأييد ‏{‏وَآتَيْنَاهُ الحكم‏}‏ الحكمة وهو فهم التوراة والفقه في الدين ‏{‏صَبِيّاً‏}‏ حال‏.‏ قيل‏:‏ دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبي فقال‏:‏ ما للعب خلقنا ‏{‏وَحَنَانًا‏}‏ شفقة ورحمة لأبويه وغيرهما عطفاً على الحكم ‏{‏مّن لَّدُنَّا‏}‏ من عندنا ‏{‏وزكواة‏}‏ أي طهارة وصلاحاً فلم يعمد بذنب ‏{‏وَكَانَ تَقِيّا‏}‏ مسلماً مطيعا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 18‏]‏

‏{‏وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ‏(‏14‏)‏ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏15‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ‏(‏16‏)‏ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ‏(‏17‏)‏ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَبَرّا بوالديه‏}‏ وباراً بهما لا يعصيهما ‏{‏وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً‏}‏ متكبراً ‏{‏عَصِيّاً‏}‏ عاصياً لربه ‏{‏وسلام عَلَيْهِ‏}‏ أمان من الله له ‏{‏يَوْمَ وُلِدَ‏}‏ من أن يناله الشيطان ‏{‏وَيَوْمَ يَمُوتُ‏}‏ من فتاني القبر ‏{‏وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً‏}‏ من الفزع الأكبر‏.‏ قال ابن عيينة‏:‏ إنها أوحش المواطن‏.‏

‏{‏واذكر‏}‏ يا محمد ‏{‏فِى الكتاب‏}‏ القرآن ‏{‏مَرْيَمَ‏}‏ أي اقرأ عليهم في القرآن قصة مريم ليقفوا عليها ويعلموا ما جرى عليها ‏{‏إِذْ‏}‏ بدل من مريم بدل اشتمال إذ الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا لوقوع هذه القصة العجيبة فيه ‏{‏انتبذت مِنْ أَهْلِهَا‏}‏ أي اعتزلت ‏{‏مَكَاناً‏}‏ ظرف ‏{‏شَرْقِياً‏}‏ أي تخلت للعبادة في مكان مما يلي شرقي بيت المقدس أو من دارها معتزلة عن الناس‏.‏ وقيل‏:‏ قعدت في مشرقه للاغتسال من الحيض ‏{‏فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً‏}‏ جعلت بينها وبين أهلها حجاباً يسترها لتغتسل وراءه ‏{‏فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا‏}‏ جبريل عليه السلام والإضافة للتشريف، وإنا سمي روحاً لأن الدين يحيا به وبوحيه ‏{‏فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً‏}‏ أي فتمثل لها جبريل في صورة آدمى شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر ‏{‏سَوِيّاً‏}‏ مستوى الخلق‏.‏ وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه ‏{‏قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً‏}‏ أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله فإني عائذة به منك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 22‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ‏(‏19‏)‏ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ‏(‏20‏)‏ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ‏(‏21‏)‏ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ جبريل عليه السلام ‏{‏إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ‏}‏ أمنها مما خافت وأخبر أنه ليس بآدمي بل هو رسول من استعاذت به ‏{‏لأَِهَبَ لَكِ‏}‏ بإذن الله تعالى، أو لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الدرع ‏{‏ليهب لك‏}‏ أي الله‏:‏ أبو عمرو ونافع‏.‏ ‏{‏غلاما زَكِيّاً‏}‏ ظاهراً من الذنوب أو نامياً على الخير والبركة‏.‏

‏{‏قَالَتْ أنّى‏}‏ كيف ‏{‏يَكُونُ لِي غلام‏}‏ ابن ‏{‏وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ‏}‏ زوج بالنكاح ‏{‏وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً‏}‏ فاجرة تبغي الرجال أي تطلب الشهوة من أي رجل كان ولا يكون الولد عادة إلا من أحد هذين، والبغي فعول عند المبرد «بغوي» فقلبت الواو ياء وأدغمت وكسرت العين إتباعاً ولذا لم تلحق تاء التأنيث كما لم تلحق في «امرأة صبور وشكور» وعند غيره هي «فعيل» ولم تلحقها الهاء لأنها بمعنى «مفعولة» وإن كانت بمعنى فاعلة فهو قد يشبه به مثل ‏{‏إن رحمة الله قريب‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ جبريل ‏{‏كذلك‏}‏ أي الأمر كما قلت‏:‏ لم يمسسك رجل نكاحاً أو سفاحاً ‏{‏قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ‏}‏ أي إعطاء الولد بلا أب عليَّ سهل ‏{‏وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ‏}‏ تعليل معلله محذوف أي ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك، أو هو معطوف على تعليل مضمر أي لنبين به قدرتنا ولنجعله آية للناس أي عبرة وبرهاناً على قدرتنا ‏{‏وَرَحْمَةً مّنَّا‏}‏ لمن أمن به ‏{‏وَكَانَ‏}‏ خلق عيسى ‏{‏أَمْراً مَّقْضِيّاً‏}‏ مقدراً مسطوراً في اللوح فلما أطمأنت إلى قوله دنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى بطنها ‏{‏فَحَمَلَتْهُ‏}‏ أي الموهوب وكانت سنها ثلاث عشرة سنة أو عشراً أو عشرين ‏{‏فانتبذت بِهِ‏}‏ اعتزلت وهو في بطنها، والجار والمجرور في موضع الحال، عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كانت مدة الحمل ساعة واحدة كما حملته نبذته‏.‏ وقيل‏:‏ ستة أشهر‏.‏ وقيل‏:‏ سبعة‏.‏ وقيل‏:‏ ثمانية‏:‏ ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى‏.‏ وقيل‏:‏ حملته في ساعة ووضعته في ساعة ‏{‏مَكَاناً قَصِيّاً‏}‏ بعيداً من أهلها وراء الجبل وذلك لأنها لما أحست بالحمل هربت من قومها مخافة اللائمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ‏(‏23‏)‏ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَجَاءهَا‏}‏ جاء بها‏.‏ وقيل‏:‏ ألجأها وهو منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء، ألا تراك لا تقول جئت المكان وأجاءنيه زيد ‏{‏المخاض‏}‏ وجمع الولادة ‏{‏إلى جِذْعِ النخلة‏}‏ أصلها وكان يابسة وكان الوقت شتاء وتعريفها مشعر بأنها كانت نخلة معروفة وجاز أن يكون التعريف للجنس أي جذع هذه الشجرة كأنه تعالى أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب لأنه حرسة النفساء أي طعامها‏.‏ ثم ‏{‏قَالَتْ‏}‏ جزعاً مما أصابها ‏{‏ياليتنى مِتُّ قَبْلَ هذا‏}‏ اليوم ‏{‏مِتُّ‏}‏ مدني وكوفي غير أبي بكر، وغيرهم‏:‏ بالضم‏.‏ يقال‏:‏ مات يموت ومات يمات ‏{‏وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً‏}‏ شيئاً متروكاً لا يعرف ولا يذكر‏.‏ بفتح النون‏:‏ حمزة وحفص، بالكسر‏:‏ غيرهما ومعناهما واحد وهو الشيء الذي حقه أن يطرح وينسى لحقارته ‏{‏فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا‏}‏ ‏{‏مَن‏}‏ أي الذي تحتها ف ‏{‏من‏}‏ فاعل وهو جبريل عليه السلام لأنِه كان بمكان منخفض عنها، أو عيسى عليه السلام لأنه خاطبها من تحت ذيلها‏.‏ ‏{‏من تحتها‏}‏ مدني وكوفي سوى أبي بكر والفاعل مضمر وهو عيسى عليه السلام، أو جبريل والهاء في ‏{‏تحتها‏}‏ للنخلة‏.‏ ولشدة ما لقيت سليت بقوله ‏{‏أَلاَّ تَحْزَنِى‏}‏ لا تهتمي بالوحدة وعدم الطعام والشراب ومقالة الناس و«أن» بمعنى أي ‏{‏قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ‏}‏ بقربك أو تحت أمرك إن أمرته أن يجري جري وإن أمرته أن يقف وقف ‏{‏سَرِيّاً‏}‏ نهراً صغيراً عند الجمهور، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السري فقال‏:‏ هو الجدول‏.‏ وعن الحسن‏:‏ سيداً كريماً يعني عيسى عليه السلام‏.‏ وروي أن خالد بن صفوان قال‏:‏ له إن العرب تسمي الجدول سرياً فقال الحسن‏:‏ صدقت ورجع إلى قوله‏.‏ وقال‏:‏ ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ضرب عيسى أو جبريل عليهما السلام بعقبه الأرض فظهرت عين ماء عذب فجرى النهر اليابس فاخضرت النخلة وأثمرت وأينعت ثمرتها فقيل لها

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ‏(‏25‏)‏ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَهْزِّي‏}‏ حركي ‏{‏إِلَيْكَ‏}‏ إلى نفسك ‏{‏بِجِذْعِ النخلة‏}‏ قال أبو علي‏:‏ الباء زائدة أي هزي جذع النخلة‏.‏

‏{‏تساقط عَلَيْكِ‏}‏ بإدغام التاء الأولى في الثانية‏:‏ مكي ومدني وشامي وأبو عمرو وعلي وأبو بكر، والأصل تتساقط بإظهار التاءين ‏{‏وتساقط‏}‏ بفتح التاء والقاف وطرح التاء الثانية وتخفيف السين‏:‏ حمزة‏.‏ و‏{‏يساقط‏}‏ بفتح الياء والقاف وتشديد السين‏:‏ يعقوب وسهل وحماد ونصير‏.‏ و‏{‏تساقط‏}‏ حفص من المفاعلة‏.‏ و‏{‏تُسقِطْ‏}‏ و‏{‏يُسقِطْ‏}‏ وتَسقُطْ ويَسقُطْ التاء للنخلة والياء للجذع فهذه تسع قراءات ‏{‏رُطَباً‏}‏ تمييز أو مفعول به على حسب القراءة ‏{‏جَنِيّاً‏}‏ طرياً وقالوا‏:‏ التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت‏.‏ وقيل‏:‏ ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض من العسل ‏{‏فَكُلِى‏}‏ من الجني ‏{‏واشربى‏}‏ من السري ‏{‏وَقَرّى عَيْناً‏}‏ بالولد الرضي و‏{‏عينا‏}‏ تمييز أي طيبي نفساً بعيسى وارفضي عنك ما أحزنك ‏{‏فَإِمَّا‏}‏ أصله إن ما فضمت إن الشرطية إلى ما وأدغمت فيها ‏{‏تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً فَقُولِى إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً‏}‏ أي فإن رأيت آدمياً يسألك عن حالك فقولي إني نذرت للرحمن صمتاً وإمساكاً عن الكلام، وكانوا يصومون عن الكلام كما يصومون عن الأكل والشرب‏.‏ وقيل‏:‏ صياماً حقيقة وكان صيامهم فيه الصمت فكان إلتزامُه إلتزامَه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت فصار ذلك منسوخاً فينا‏.‏ وإنما أمرت أن تنذر السكوت لأن عيسى عليه السلام يكفيها الكلام بما يبرئ به ساحتها ولئلا تجادل السفهاء، وفيه دليل على أن السكوت عن السفيه واجب وما قُدعَ سفيه بمثل الإعراض ولا أطلق عنانه بمثل العراض‏.‏ وإنما أخبرتهم بأنها نذرت الصوم بالإشارة وقد تسمى الإشارة كلاماً وقولاً ألا ترى أن قول الشاعر في وصف القبور

وتكلمت عن أوجه تبلى *** وقيل‏:‏ كان وجوب الصمت بعد هذا الكلام أو سوغ لها هذا القدر بالنطق ‏{‏فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً‏}‏ آدميا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ‏(‏27‏)‏ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ‏(‏28‏)‏ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ‏(‏29‏)‏ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَتَتْ بِهِ‏}‏ بعيسى ‏{‏قَوْمَهَا‏}‏ بعد ما طهرت من نفاسها ‏{‏تَحْمِلُهُ‏}‏ حال منها أي أقبلت نحوهم حاملة إياه فلما رأوه معها ‏{‏قَالُواْ يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً‏}‏ بديعاً عجيباً والفري القطع كأنه يقطع العادة ‏{‏يَاأُخْتَ هارون‏}‏ وكان أخاها من أبيها ومن أفضل بني إسرائيل، أو هو أخو موسى عليه السلام وكانت من أعقابه وبينهما ألف سنة وهذا كما يقال يا أخا همدان أي يا واحداً منهم، أو رجل صالح أو طالح من زمانها شبهوها به في الصلاح أو شتموها به ‏{‏مَا كَانَ أَبُوكِ‏}‏ عمران ‏{‏امرأ سَوْء‏}‏ زانياً ‏{‏وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ‏}‏ حنة ‏{‏بَغِيّاً‏}‏ زانية ‏{‏فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ‏}‏ إلى عيسى أن يجيبهم وذلك أن عيسى عليه السلام قال لها‏:‏ لا تحزني وأحيلي بالجواب علي‏.‏ وقيل‏:‏ أمرها جبريل بذلك‏.‏ ولما أشارت إليه غضبوا وتعجبوا و‏{‏قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ‏}‏ حدث ووجد ‏{‏فِى المهد‏}‏ المعهود ‏{‏صَبِيّاً‏}‏ حال ‏{‏قَالَ إِنّى عَبْدُ الله‏}‏ ولما أسكتت بأمر الله لسانها الناطق أنطق الله لها اللسان الساكت حتى اعترف بالعبودية وهو ابن أربعين ليلة أو ابن يوم، روي أنه أشار بسبابته وقال بصوت رفيع ‏{‏إني عبد الله‏}‏ وفيه رد لقول النصارى ‏{‏آتانيالكتاب‏}‏ الإنجيل ‏{‏وَجَعَلَنِى نَبِيّاً‏}‏ روي عن الحسن أنه كان في المهد نبياً وكلامه معجزته‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أن ذلك سبق في قضائه أو جعل الآتي لا محالة كأنه وجد

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 34‏]‏

‏{‏وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ‏(‏31‏)‏ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ‏(‏32‏)‏ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏33‏)‏ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ‏}‏ نفاعاً حيث كنت أو معلماً للخير ‏{‏وَأَوْصَانِى‏}‏ وأمرني ‏{‏بالصلاة والزكاة‏}‏ إن ملكت مالاً‏.‏ وقيل‏:‏ صدقة الفطر أو تطهير البدن، ويحتمل وأوصاني بأن آمركم بالصلاة والزكاة ‏{‏مَا دُمْتُ حَياً‏}‏ نصب على الظرف أي مدة حياتي ‏{‏وَبَرّاً بِوَالِدَتِى‏}‏ عطفاً على ‏{‏مباركاً‏}‏ أي باراً بها أكرمها وأعظمها ‏{‏وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً‏}‏ متكبراً ‏{‏شَقِيّاً‏}‏ عاقاً ‏{‏والسلام عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ‏}‏ ‏{‏يوم‏}‏ ظرف والعامل فيه الخبر وهو ‏{‏علي‏}‏ ‏{‏وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً‏}‏ أي ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إلي إن كان حرف التعريف للعهد، وإن كان للجنس فالمعنى وجنس السلام علي، وفيه تعريض باللعنة على أعداء مريم وابنهالأنه إذا قال‏:‏ وجنس السلام على، وفيه تعريف باللغة على أعداء مريم وابنها لأنه إذا قال وجنس السلام عليّ، فقد عرض بأن ضده عليكم إذ المقام مقام مناكرة وعناد فكان مئنة لمثل هذا التعريض‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ مبتدأ ‏{‏عِيسَى‏}‏ خبره ‏{‏ابن مَرْيَمَ‏}‏ نعته أو خبر ثان أي ذلك الذي قال‏:‏ إني كذا وكذا عيسى ابن مريم لا كما قالت النصارى‏:‏ إنه إله أو ابن الله ‏{‏قَوْلَ الحق‏}‏ كلمة الله فالقول الكلمة والحق الله، وقيل‏:‏ له كلمة الله لأنه ولد بقوله كن بلا واسطة أب‏.‏ وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من عيسى‏.‏ ونصبه شامي وعاصم على المدح أو على المصدر أي أقول قول الحق هو ابن مريم وليس بإله كما يدعونه ‏{‏الذى فِيهِ يَمْتُرُونَ‏}‏ يشكون من المرية الشك أو يختلفون من المراء، فقالت اليهود‏:‏ ساحر كذاب، وقالت النصارى‏:‏ ابن الله وثالث ثلاثة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 38‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏35‏)‏ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏36‏)‏ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏37‏)‏ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏مَا كَانَ للَّهِ‏}‏ ما ينبغي له ‏{‏أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ‏}‏ جيء ب ‏{‏من‏}‏ لتأكيد النفي ‏{‏سبحانه‏}‏ نزه ذاته عن اتخاذ الولد ‏{‏إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ بالنصب شامي أي كما قال‏:‏ لعيسى كن فكان من غير أب ومن كان متصفاً بهذا كان منزها أن يشبه الحيوان الوالد ‏{‏وَإِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه‏}‏ بالكسر شامي وكوفي على الابتداء وهو من كلام عيسى يعني كما أنا عبده فأنتم عبيده، علي وعليكم أن نعبده‏.‏ ومن فتح عطف على ‏{‏بالصلاة‏}‏ أي وأوصاني بالصلاة وبالزكاة وبأن الله ربي وربكم، أو علقه بما بعده أي لأن الله ربي وربكم فاعبدوه ‏{‏هذا‏}‏ الذي ذكرت ‏{‏صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً‏.‏

‏{‏فاختلف الأحزاب‏}‏ الحزب الفرقة المنفردة برأيها عن غيرها وهم ثلاث فرق‏:‏ نسطورية ويعقوبية وملكانية ‏{‏مِن بَيْنِهِمْ‏}‏ من بين أصحابه أو من بين قومه أو من بين الناس، وذلك أن النصارى اختلفوا في عيسى حين رفع ثم اتفقوا على أن يرجعوا إلى قول ثلاثة كانوا عندهم أعلم أهل زمانهم وهم‏:‏ يعقوب ونسطور وملكان‏.‏ فقال يعقوب‏:‏ هو الله هبط إِلى الأرض ثم صعد إلى السماء‏.‏ وقال‏:‏ نسطور كان ابن الله أظهره ما شاء ثم رفعه إليه‏.‏ وقال الثالث‏:‏ كذبوا كان عبداً مخلوقاً نبياً فتبع كل واحد منهم قوم ‏{‏فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ من الأحزاب إذ الواحد منهم على الحق ‏{‏مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ هو يوم القيامة أو من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وأن تشهد عليهم

الملائكة والأنبياء وجوارحهم بالكفر، أو من مكان الشهادة أو وقتها، أو المراد يوم اجتماعهم للتشاور فيه وجعله عظيماً لفظاعة ما شهدوا به في عيسى ‏{‏أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا‏}‏ الجمهور على أن لفظه أمر ومعناه التعجب والله تعالى لا يوصف بالتعجب ولكن المراد أن إسماعهم وإبصارهم جدير بأن يتعجب منهما بعدما كانوا صما وعمياً في الدنيا‏.‏ قال قتادة‏:‏ إن عموا وصموا عن الحق في الدنيا فما أسمعهم وما أبصرهم بالهدى يوم لا ينفعهم‏!‏ و‏{‏بهم‏}‏ مرفوع المحل على الفاعلية «كأكرم بزيد» فمعناه كرم زيد جداً ‏{‏لكن الظالمون اليوم‏}‏ أقيم الظاهر مقام المضمر أي لكنهم اليوم في الدنيا بظلمهم أنفسهم حيث تركوا الاستماع والنظر حين يجدي عليهم ووضعوا العبادة في غير موضعها ‏{‏فِى ضلال‏}‏ عن الحق ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر وهو اعتقادهم عيسى إلها معبوداً مع ظهور آثار الحدث فيه إشعاراً بأن لا ظلم أشد من ظلمهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 41‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏40‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنذِرْهُمْ‏}‏ خوفهم ‏{‏يَوْمَ الحسرة‏}‏ يوم القيامة لأنه يقع فيه الندم على مافات، وفي الحديث «إذا رأوا منازلهم في الجنة أن لو آمنوا» ‏{‏إِذْ‏}‏ بدل من ‏{‏يوم الحسرة‏}‏ أو ظرف للحسرة وهو مصدر ‏{‏قُضِىَ الأمر‏}‏ فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار ‏{‏وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ‏}‏ هنا عن الاهتمام لذلك المقام ‏{‏وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ لا يصدقون به ‏{‏وهم‏}‏ ‏{‏وهم‏}‏ حالان أي وأنذرهم على هذا الحال غافلين غير مؤمنين ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا‏}‏ أي نتفرد بالملك والبقاء عند تعميم الهلك والفناء وذكر من لتغليب العقلاء ‏{‏وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ‏}‏ بضم الياء وفتح الجيم وفتح الياء‏:‏ يعقوب أي يردون فيجازون جزاءً وفاقاً‏.‏

‏{‏واذكر‏}‏ لقومك ‏{‏فِى الكتاب‏}‏ القرآن ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ قصته مع أبيه ‏{‏إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً‏}‏ بغير همز وهمزة نافع‏.‏ قيل‏:‏ الصادق المستقيم في الأفعال والصديق المستقيم في الأحوال، فالصديق من أبنية المبالغة ونظيرة الضحيك والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله أي كان مصدقاً لجميع الأنبياء وكتبهم وكان نبياً في نفسه، وهذه الجملة وقعت اعتراضاً بين إبراهيم وبين ما هو بدل منه وهو‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 45‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ‏(‏42‏)‏ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ‏(‏43‏)‏ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ‏(‏44‏)‏ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ قَالَ‏}‏ وجاز أن يتعلق ‏{‏إذا‏}‏ ب ‏{‏كان‏}‏ أو ب ‏{‏صديقاً نبياً‏}‏ أي كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه بتلك المخاطبات والمراد بذكر الرسول إياه وقصته في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس ويبلغه إياهم كقوله ‏{‏واتل عليهم نبأ إبراهيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 69‏]‏ وإلا فالله عز وعلا هو ذاكره ومورده في تنزيله ‏{‏لأَِبِيهِ ياأبت‏}‏ بكسر التاء وفتحها‏.‏ ابن عامر والتاء عوض من ياء الإضافة ولا يقال يا أبتي لئلا يجمع بين العوض والمعوض منه ‏{‏لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ‏}‏ المفعول فيهما منسي غير منوي ويجوز أن يقدر أي لا يسمع شيئاً ولا يبصر شيئاً ‏{‏وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً‏}‏ يحتمل أن يكون شيئاً في موضع المصدر أي شيئاً من الإغناء وأن يكون مفعولاً به من قولك أغن عني وجهك أي بعد ‏{‏ياأبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم‏}‏ الوحي أو معرفة الرب ‏{‏مَا لَمْ يَأْتِكَ‏}‏ «ما» في ‏{‏ما لا يسمع‏}‏ و‏{‏ما لم يأتك‏}‏ يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة ‏{‏فاتبعنى أَهْدِكَ‏}‏ أرشدك ‏{‏صِرَاطاً سَوِيّاً‏}‏ مستقيماً ‏{‏ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان‏}‏ لا تطعه فيما سوَّل من عبادة الصنم ‏{‏إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً‏}‏ عاصياً‏.‏ ‏{‏ياأبت إِنّى أَخَافُ‏}‏ قيل أَعلم ‏{‏أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن فَتَكُونَ للشيطان وَلِيّاً‏}‏ قرينا في النار تليه ويليك فانظر في نصيحته كيف راعى المجاملة والرفق والخلق الحسن كما أمر ففي الحديث ‏"‏ «أوحي إلى إبراهيم إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار» ‏"‏ فطلب منه أولاً العلة في خطئه طلب منه على تماديه موقظ لإفراطه وتناهيه، لأن من يعبد أشرف الخلق منزلة وهم الأنبياء كان محكوماً عليه بالغي المبين فكيف بمن يعبد حجراً أو شجراً لا يسمع ذكر عابده ولا يرى هيئات عبادته ولا يدفع عنه بلاء ولا يقضي له حاجة‏؟‏ ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقاً به متلطفاً، فلم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال‏:‏ إن معي شيئاً من العلم ليس معك وذلك علم الدلالة على الطريق السوي، فهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه، ثم ثلث بنهيه عما كان عليه بأن الشيطان الذي عصى الرحمن الذي جميع النعم منه أوقعك في عبادة الصنم وزينها لك فأنت عابده في الحقيقة، ثم ربَّع بتخويفه سوء العاقبة وما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال مع مراعاة الأدب حيث لم يصرح بأن العقاب لاحق به وأن العذاب لاصق به بل قال‏:‏ أخاف أن يمسك عذاب بالتنكير المشعر بالتقليل كأنه قال‏:‏ إني أخاف أن يصيبك نَفَيان من عذاب الرحمن وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب كما أن رضوان الله أكبر من الثواب في نفسه وصدر كل نصيحة بقوله ‏{‏يا أبت‏}‏ توسلاً إليه واستعطافاً وإشعاراً بوجوب احترام الأب وإن كان كافراً فثم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 47‏]‏

‏{‏قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ‏(‏46‏)‏ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ آزر توبيخاً‏:‏ ‏{‏أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ياإبراهيم‏}‏ أي أترغب عن عبادتها فناداه باسمه ولم يقابل ‏{‏يا أبت‏}‏ ب «يا بني» وقدم الخبر على المبتدأ لأنه كان أهم عنده ‏{‏لَئِن لَّمْ تَنتَهِ‏}‏ عن شتم الأصنام ‏{‏لأرْجْمْتَّكَ‏}‏ لأقتلنك بالرجام أو لأضربنك بها حتى تتباعد أو لأشتمنك ‏{‏واهجرنى‏}‏ عطف على محذوف يدل عليه ‏{‏لأرجمنك‏}‏ تقديره فاحذرني واهجرني ‏{‏مَلِيّاً‏}‏ ظرف أي زماناً طويلاً من الملاوة ‏{‏قَالَ سلام عَلَيْكَ‏}‏ سلام توديع ومتاركة أو تقريب وملاطفة ولذا وعده بالاستغفار بقوله‏:‏ ‏{‏سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي‏}‏ سأسأل الله أن يجعلك من أهل المغفرة بأن يهديك للإسلام ‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً‏}‏ ملطفاً بعموم النعم أو رحيماً أو مكرماً والحفاوة الرأفة والرحمة والكرامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 52‏]‏

‏{‏وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ‏(‏48‏)‏ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ‏(‏49‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ‏(‏50‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ‏(‏51‏)‏ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَعْتَزِلُكُمْ‏}‏ أراد بالاعتزال المهاجرة من أرض بابل إلى الشام ‏{‏وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ أي ما تعبدون من أصنامكم ‏{‏وادعوا‏}‏ وأعبد ‏{‏رَبّى‏}‏ ثم قال تواضعاً وهضماً للنفس ومعرضاً بشقاوتهم بدعاء آلهتهم ‏{‏عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا‏}‏ أي كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام ‏{‏فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ فلما اعتزل الكفار ومعبودهم ‏{‏وَهَبْنَا لَهُ إسحاق‏}‏ ولداً ‏{‏وَيَعْقُوبَ‏}‏ نافلة ليستأنس بهما ‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ كل واحد منهما ‏{‏جَعَلْنَا نَبِيّاً‏}‏ أي لما ترك الكفار الفجار لوجهه عوضه أولاداً مؤمنين أنبياء ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا‏}‏ هي المال والولد ‏{‏وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ‏}‏ ثناء حسناً وهو الصلاة على إبراهيم وآل إبراهيم في الصلوات، وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية ‏{‏عَلِيّاً‏}‏ رفيعاً مشهوراً‏.‏

‏{‏واذكر فِى الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً‏}‏ كوفي‏:‏ غير المفضل، أي أخلصه الله واصطفاه، و‏{‏مخلِصا‏}‏ بالكسر غيرهم أي أخلص هو العبادة لله تعالى فهو مخلص بماله من السعادة بأصل الفطرة، ومخلص فيما عليه من العبادة بصدق الهمة ‏{‏وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً‏}‏ الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء والنبي الذي ينبئ عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب كيوشع ‏{‏وناديناه‏}‏ دعوناه وكلمناه ليلة الجمعة ‏{‏مِن جَانِبِ الطور‏}‏ هو جبل بين مصر ومدين ‏{‏الأيمن‏}‏ من اليمين أي من ناحية اليمين، والجمهور على أن المراد أيمن موسى عليه السلام لأن الجبل لا يمين له، والمعنى أنه حين أقبل من مدين يريد مصر نودي من الشجرة وكانت في جانب الجبل على يمين موسى عليه السلام ‏{‏وَقَرَّبْنَاهُ‏}‏ تقريب منزلة ومكانة لا منزل ومكان ‏{‏نَجِيّاً‏}‏ حال أي مناجياً كنديم بمعنى منادم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 57‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ‏(‏53‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ‏(‏54‏)‏ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ‏(‏55‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏56‏)‏ وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا‏}‏ من أجل رحمتنا له وترؤفنا عليه ‏{‏أَخَاهُ‏}‏ مفعول ‏{‏هارون‏}‏ بدل منه ‏{‏نَبِيّاً‏}‏ حال أي وهبنا له نبوة أخيه وإلا فهارون كان أكبر سناً منه‏.‏

‏{‏واذكر فِى الكتاب إسماعيل‏}‏ هو ابن إبراهيم في الأصح ‏{‏إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد‏}‏ وافيه‏.‏ وعد رجلاً أن يقيم مكانه حتى يعود إليه فانتظره سنة في مكانه حتى عاد، وناهيك أنه وعد من نفسه الصبر على الذبح فوفى‏.‏ وقيل لم يعد ربه موعداً إلا أنجزه، وإنما خصه بصدق الوعد وإن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً له ولأنه المشهور من خصاله ‏{‏وَكَانَ رَسُولاً‏}‏ إلى جرهم ‏{‏نَبِيّاً‏}‏ مخبراً منذراً ‏{‏وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ‏}‏ أمته لأن النبي أبو أمته وأهل بيته وفيه دليل على أنه لم يداهن غيره ‏{‏بالصلاة والزكاة‏}‏ يحتمل أنه إنما خصت هاتان العبادتان لأنهما أما العبادات البدنية والمالية ‏{‏وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً‏}‏ قرئ ‏{‏مرضوا‏}‏ على الأصل ‏{‏واذكر فِى الكتاب إِدْرِيسَ‏}‏ هو أخنوخ أول مرسل بعد آدم عليه السلام، وأول من خط بالقلم وخاط اللباس ونظر في علم النجوم والحساب واتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل‏.‏ وقولهم سمي به لكثرة دراسته كتب الله لا يصح لأنه لو كان «أفعيلاً» من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفاً فامتناعه من الصرف دليل العجمة ‏{‏إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً‏}‏ أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة ‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً‏}‏ هو شرف النبوة والزلفى عند الله‏.‏ وقيل‏:‏ معناه رفعته الملائكة إلى السماء الرابعة، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فيها‏.‏ وعن الحسن‏:‏ إلى الجنة لا شيء أعلى من الجنة وذلك أنه حبب لكثرة عبادته إلى الملائكة فقال‏:‏ لملك الموت أذقني الموت يهن عليّ ففعل ذلك بإذن الله فحيى وقال‏:‏ أدخلني النار أزدد رهبة ففعل، ثم قال‏:‏ أدخلني الجنة أزدد رغبة، ثم قال‏:‏ اخرج فقال‏:‏ قد ذقت الموت ووردت النار فما أنا بخارج من الجنة فقال الله عز وجل‏:‏ بإذني فعل وبإذني دخل فدعه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ‏(‏58‏)‏ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْلَئِكَ‏}‏ إشارة إلى المذكورين في السورة من زكرياء إلى إدريس ‏{‏الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين‏}‏ «من» للبيان لأن جميع الأنبياء منعم عليهم ‏{‏مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ‏}‏ «من» للتبعيض وكان إدريس من ذرية آدم لقربه منه لأنه جد أبي نوح ‏{‏وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ‏}‏ إبراهيم من ذرية من حمل مع نوح لأنه ولد سام بن نوح ‏{‏وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم‏}‏ إسماعيل وإسحاق ويعقوب ‏{‏وإسراءيل‏}‏ أي ومن ذرية إسرائيل أي يعقوب وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى لأن مريم من ذريته ‏{‏وَمِمَّن‏}‏ يحتمل العطف على «من» الأولى والثانية ‏{‏هَدَيْنَا‏}‏ لمحاسن الإسلام ‏{‏واجتبينا‏}‏ من الأنام أو لشرح الشريعة وكشف الحقيقة ‏{‏إذا تتلى عليهم ءايات الرحمن‏}‏ أي إذا تليت عليهم كتب الله المنزلة وهو كلام مستأنف‏.‏ إن جعلت ‏{‏الذين‏}‏ خبراً ل ‏{‏أولئك‏}‏ وإن جعلته صفة له كان خبراً‏.‏ ‏{‏يتلى‏}‏ بالياء‏:‏ قتيبة لوجود الفاصل مع أن التأنيث غير حقيقي ‏{‏خَرُّواْ سُجَّداً‏}‏ سقطوا على وجوههم رغبةً ‏{‏وَبُكِيّاً‏}‏ باكين رهبة جمع باكٍ كسجود وقعود في جمع ساجد وقاعد في الحديث ‏"‏ اتلوا القرآن وابكوا وإن لم تبكوا فتباكوا ‏"‏ وعن صالح المري‏:‏ قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي يا صالح‏:‏ ‏"‏ هذه القراءة فأين البكاء‏؟‏ ‏"‏ ويقول في سجود التلاوة سبحان ربي الأعلى ثلاثاً‏.‏

‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ فجاء من بعد هؤلاء المفضلين ‏{‏خَلْفٌ‏}‏ أولاد سوء وبفتح اللام العقب الخير‏.‏ عن ابن عباس‏:‏ هم اليهود ‏{‏أَضاعُوا الصلاة‏}‏ تركوا الصلاة المفروضة ‏{‏واتبعوا الشهوات‏}‏ ملاذ النفوس‏.‏ وعن عليّ رضي الله عنه‏:‏ من بنى الشديد وركب المنظور ولبس المشهور‏.‏ وعن قتادة رضي الله عنه‏:‏ هو في هذه الأمة ‏{‏فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً‏}‏ جزاء غي وكل شر عند العرب غي وكل خير رشاد‏.‏ وعن ابن عباس وابن مسعود‏:‏ هو وادٍ في جهنم أعدّ للمصرين على الزنا وشارب الخمر وآكل الربا والعاق وشاهد الزور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 62‏]‏

‏{‏إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ‏(‏60‏)‏ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ‏(‏61‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ مَن تَابَ‏}‏ رجع عن كفره ‏{‏وَآمَنَ‏}‏ بشرطه ‏{‏وَعَمِلَ صالحا‏}‏ بعد إيمانه ‏{‏فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة‏}‏ بضم الياء وفتح الخاء‏:‏ مكي وبصري وأبو بكر ‏{‏وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً‏}‏ أي لا ينقصون شيئاً من جزاء أعمالهم ولا يمنعونه بل يضاعف لهم أو لا يظلمون شيئاً من الظلم ‏{‏جنات‏}‏ بدل من ‏{‏الجنة‏}‏ لأن الجنة تشتمل على جنات عدن لأنها جنس أو نصب على المدح ‏{‏عَدْنٍ‏}‏ معرفة لأنها علم لمعنى العدن وهو الإقامة أو علم لأرض الجنة لكونها مقام إقامة ‏{‏التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ‏}‏ أي عباده التائبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات كما سبق ذكرهم ولأنه أضافهم إليه وهو للاختصاص وهؤلاء أهل الاختصاص ‏{‏بالغيب‏}‏ أي وعدها وهي غائبة عنهم غير حاضرة أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ ضمير الشأن أو ضمير الرحمن ‏{‏كَانَ وَعْدُهُ‏}‏ أي موعوده وهو الجنة ‏{‏مَأْتِيّاً‏}‏ أي هم يأتونها ‏{‏لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا‏}‏ في الجنة ‏{‏لَغْواً‏}‏ فحشاً أو كذباً أو ما لا طائل تحته من الكلام وهو المطروح منه، وفيه تنبيه على وجوب تجنب اللغو واتقائه حيث نزه الله عنه داره التي لا تكليف فيها ‏{‏إِلاَّ سلاما‏}‏ أي لكن يسمعون سلاماً من الملائكة أو من بعضهم على بعض، أو لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة فهو استثناء منقطع عند الجمهور‏.‏ وقيل‏:‏ معنى السلام هو الدعاء بالسلامة ولما كان أهل دار السلام أغنياء عن الدعاء بالسلامة، كان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام ‏{‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً‏}‏ أي يؤتون بأرزاقهم على مقدار طرفي النهار من الدنيا إذ لا ليل ولا نهار، ثم لأنهم في النور أبداً وإنما يعرفون مقدار النهار برفع الحجب ومقدار الليل بإرخائها‏.‏ والرزق بالبكرة والعشي أفضل العيش عند العرب فوصف الله جنته بذلك‏.‏ وقيل أراد دوام الرزق كما تقول «أنا عند فلان بكرة وعشياً» تريد الدوام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 65‏]‏

‏{‏تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ‏(‏63‏)‏ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ‏(‏64‏)‏ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏تِلْكَ الجنة التى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ أي نجعلها ميراث أعمالهم يعني ثمرتها وعاقبتها‏.‏ وقيل‏:‏ يرثون المساكن التي كانت لأهل النار آمنوا لأن الكفر موت حكماً ‏{‏مَن كَانَ تَقِيّاً‏}‏ عن الشرك‏.‏

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال‏:‏ «يا جبريل ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا» فنزل ‏{‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ‏}‏ والتنزل على معنيين معنى النزول على مهل ومعنى النزول على الإطلاق والأول أليق هنا يعني أن نزولنا في الأحايين وقتاً غب وقت ليس إلا بأمر الله ‏{‏لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً‏}‏ أي له ما قدامنا وما خلفنا من الأماكن وما نحن فيها فلا نتمالك أن ننتقل من مكان إلى مكان إلا بأمر الملك ومشيئته، وهو الحافظ العالم بكل حركة وسكون وما يحدث من الأحوال لا تجوز عليه الغفلة والنسيان فأنى لنا أن نتقلب في ملكوته إلا إذا أذن لنا فيه ‏{‏رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ بدل من ‏{‏ربك‏}‏ أو خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السماوات والأرض‏.‏ ثم قال‏:‏ لرسوله لما عرفت أنه متصف بهذه الصفات ‏{‏فاعبده‏}‏ فاثبت على عبادته ‏{‏واصطبر لِعِبَادَتِهِ‏}‏ أي اصبر على مكافأة الحسود، لعبادة المعبود، واصبر على المشاق، لأجل عبادة الخلاق، أي لتتمكن من الإتيان بها ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً‏}‏ شبيها ومثلاً، أو هل يسمى أحد باسم الله غيره لأنه مخصوص بالمعبود بالحق أي إذا صح أن لا معبود توجه إليه العباد العبادة إلا هو وحده لم يكن بد من عبادته والاصطبار على مشاقها‏.‏

فتهافت أبيَّ بن خلف عظماً وقال‏:‏ أنبعث بعدما صرنا كذا‏؟‏ فنزل

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 68‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ‏(‏66‏)‏ أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ‏(‏67‏)‏ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً‏}‏ والعامل في ‏{‏إذا‏}‏ ما دل عليه الكلام وهو أبعث أي إذا مامت أبعث وانتصابه ب ‏{‏أخرج‏}‏ ممتنع لأن ما بعد لام الابتداء لا يعمل فيما قبلها فلا تقول «اليوم لزيد قائم» ولام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال وتؤكد مضمون الجملة، فلما جامعت حرف الاستقبال خلصت للتوكيد واضمحل معنى الحال‏.‏ و«ما» في «إذا ما» للتوكيد أيضاً فكأنه قال‏:‏ «أحقًّا إنا سنخرج من القبور أحياء حين يتمكن فينا الموت والهلاك» على وجه الاستنكار والاستبعاد‏.‏ وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة، ومنه جاء إنكارهم ‏{‏أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإنسان‏}‏ خفيف شامي ونافع وعاصم من الذكر، والسائر بتشديد الذال والكاف وأصله يتذكر كقراءة أبيّ فأدغمت التاء في الذال أي أو لا يتدبر، والواو عطفت ‏{‏لا يذكر‏}‏ على ‏{‏يقول‏}‏ ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف يعني أيقول ذلك ولا يتذكر حال النشأة الأولى حتى لا ينكر النشأة الأخرى فإن تلك أدل على قدرة الخالق حيث أخرج الجواهر والأعراض من العدم إلى الوجود‏.‏ وأما الثانية فليس فيها إلا تأليف الأجزاء الموجودة وردها إلى ما كَانتَ عليه مجموعة بعد التفريق ‏{‏أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه ‏{‏وَلَمْ يَكُ شَيْئاً‏}‏ هو ذليل على ما بينا وعلى أن المعدوم ليس بشيء خلافاً للمعتزلة ‏{‏فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ‏}‏ أي الكفار المنكرين للبعث ‏{‏والشياطين‏}‏ الواو للعطف وبمعنى «مع» أوقع أي يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة‏.‏ وفي أقسام الله باسمه ومضافاً إلى رسوله تفخيم لشأن رسوله ‏{‏ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً‏}‏ حال جمع جاث أي بارك على الركب ووزنه «فعول» لأن أصله «جثوو» كسجود وساجد أي يعتلون من المحشر إلى شاطئ جهنم عتلا على حالهم التي كانوا عليها في الموقف جثاة على ركبهم غير مشاة على أقدامهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 71‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ‏(‏69‏)‏ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا ‏(‏70‏)‏ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ‏}‏ طائفة شاعت أي تبعت غاوياً من الغواة ‏{‏أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً‏}‏ جرأة أو فجوراً أي لنخرجن من كل طائفة من طوائف الغي أعتاهم فأعتاهم، فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب، نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بأشدهم عتياً الرؤساء لتضاعف جرمهم لكونهم ضلالاً ومضلين‏.‏ قال سيبويه‏:‏ ‏{‏أيهم‏}‏ مبني على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلته وهو «هو» من «هو أشد» حتى لو جيء به لأعرب بالنصب، وقيل‏:‏ أيهم هو أشد وهذا لأن الصلة توضح الموصول وتبينه كما أن المضاف إليه يوضح المضاف ويخصصه، فكما أن خذف المضاف إليه في «من قبلُ» يوجب بناء المضاف وجب أن يكون حذف الصلة أو شيء منها موجباً للبناء وموضعها نصب ب «نزع»، وقال الخليل‏:‏ هي معربة وهو مبتدأ وأشد خبره وهو رفع على الحكاية تقديره‏:‏ لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد على الرحمن عتياً‏.‏ ويجوز أن يكون النزع واقعاً على ‏{‏من كل شيعة‏}‏ كقوله ‏{‏ووهبنا لهم من رحمتنا‏}‏ أي لننزعن بعض كل شيعة فكأن قائلاً قال‏:‏ من هم‏؟‏ فقيل‏:‏ أيهم أشد عتياً، و«على» يتعلق بأفعل أي عتوهم أشد على الرحمن ‏{‏ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا‏}‏ أحق بالنار ‏{‏صِلِيّاً‏}‏ تمييز أو دخولاً والباء تتعلق ب ‏{‏أولى‏}‏ ‏{‏وَإِن مّنكُمْ‏}‏ أحد ‏{‏إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ داخلها والمراد النار والورود‏:‏ الدخول عند علي وابن عباس رضي الله عنهم وعليه جمهور أهل السنة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأوردهم النار‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 98‏]‏ ولقوله تعالى ‏{‏لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 99‏]‏ ولقوله ‏{‏ثم تنجى الذين اتقوا‏}‏ إذ النجاة إنما تكون بعد الدخول لقوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم وتقول النار للمؤمن‏:‏ جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي ‏"‏ وقيل‏:‏ الورود بمعنى الدخول لكنه يختص بالكفار لقراءة ابن عباس ‏{‏وإن منهم‏}‏ وتحمل القراءة المشهورة على الإلتفات‏.‏ وعن عبد الله‏:‏ الورود الحضور لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما ورد ماء مدين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 23‏]‏ وقوله ‏{‏أولئك عنها مبعدون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ وأجيب عنه بأن المراد عن عذابها‏.‏ وعن الحسن وقتادة‏:‏ الورود المرور على الصراط لأن الصراط ممدود عليها فيسلم أهل الجنة ويتقاذف أهل النار‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا لقوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ الحمى حظ كل مؤمن من النار ‏"‏ وقال رجل من الصحابة لآخر‏:‏ أيقنت بالورود‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ وأيقنت بالصدر‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ففيم الضحك وفيم التثاقل‏؟‏ ‏{‏كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً‏}‏ أي كان ورودهم واجباً كائناً محتوماً والحتم مصدر حتم الأمر إذا أوجبه فسمى به الموجب كقولهم «ضرب الأمير»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ‏(‏72‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ نُنَجّى‏}‏ وعلي بالتخفيف ‏{‏الذين اتقوا‏}‏ عن الشرك وهم المؤمنون ‏{‏وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً‏}‏ فيه دليل على دخول الكل لأنه قال‏:‏ ‏{‏ونذر‏}‏ ولم يقل وندخل، والمذهب أن صاحب الكبيرة قد يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو لا محاله‏.‏ وقالت‏:‏ المرجئة الخبيثة‏:‏ لا يعاقب لأن المعصية لا تضر مع الإسلام عندهم‏.‏ وقالت المعتزلة‏:‏ يخلد‏.‏

‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ أي القرآن ‏{‏بينات‏}‏ ظاهرات الإعجاز أو حججاً وبراهين حال مؤكدة كقوله‏:‏ ‏{‏وهو الحق مصدقاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 91‏]‏ إذ آيات الله لا تكون إلا واضحة وحججاً ‏{‏قَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي مشركو قريش وقد رجلوا شعورهم وتكلفوا في زيهم ‏{‏لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ للفقراء ورؤوسهم شعثة وثيابهم خشنة ‏{‏أَىُّ الفريقين‏}‏ نحن أم أنتم ‏{‏خَيْرٌ مَّقَاماً‏}‏ بالفتح وهو موضع القيام والمراد المكان والمسكن‏.‏ وبالضم مكي وهو موضع الإقامة والمنزل ‏{‏وَأَحْسَنُ نَدِيّاً‏}‏ مجلسا يجتمع القوم فيه للمشاورة‏.‏ ومعنى الآية أن الله تعالى يقول‏:‏ إذا أنزلنا آية فيها دلائل وبراهين أعرضوا عن التدبر فيها إلى الافتخار بالثروة والمال وحسن المنزل والحال فقال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 76‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ‏(‏74‏)‏ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا ‏(‏75‏)‏ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ‏}‏ ف ‏{‏كم‏}‏ مفعول ‏{‏أهلكنا‏}‏ و‏{‏من‏}‏ تبيين لإبهامها أي كثيراً من القرون أهلكنا وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم ‏{‏هُمْ أَحْسَنُ‏}‏ في محل النصب صفة ل ‏{‏كم‏}‏ ألا ترى أنك لو تركت ‏{‏هم‏}‏ كان أحسن نصباً على الوصفية ‏{‏أَثَاثاً‏}‏ هو متاع البيت أو ماجد من الفرش ‏{‏وَرِئياً‏}‏ منظراً وهيئة فعل بمعنى مفعول من رأيت و‏{‏رياً‏}‏ بغير همز مشدداً‏:‏ نافع وابن عامر على قلب الهمزة ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم الإدغام، أو من الري الذي هو النعمة ‏{‏قُلْ مَن كَانَ فِى الضلالة‏}‏ الكفر ‏{‏فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً‏}‏ جواب ‏{‏من‏}‏ لأنها شرطية وهذا الأمر بمعنى الخبر أي من كفر مد له الرحمن يعني أمهله وأملى له في العمر ليزداد طغياناً وضلالاً كقوله تعالى ‏{‏إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 178‏]‏ وإنما أخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك وأنه مفعول لا محالة كالمأمور به الممتثل ليقطع معاذير الضلال‏.‏

‏{‏حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ‏}‏ هي متصلة بقوله ‏{‏خير مقاماً وأحسن ندياً‏}‏ وما بينهما اعتراض أي لا يزالون يقولون هذا القول إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين ‏{‏إِمَّا العذاب‏}‏ في الدنيا وهو تعذيب المسلمين إياهم بالقتل والأسر ‏{‏وَإِمَّا الساعة‏}‏ أي القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال فهما بدلان مما يوعدون ‏{‏فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً‏}‏ منزلاً ‏{‏وَأَضْعَفُ جُنداً‏}‏ أعواناً وأنصاراً أي فحينئذٍ يعلمون أن الأمر على عكس ما قدروه وأنهم شر مكاناً وأضعف جنداً لا خير مقاماً وأحسن ندياً، وأن المؤمنين على خلاف صفتهم‏.‏ وجاز أن تتصل بما يليها، والمعنى إن الذين في الضلالة ممدود لهم في ضلالتهم لا ينفكون عن ضلالتهم إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين أو يشاهدوا الساعة‏.‏ وحتى هي التي يحكي بعدها الجمل ألا ترى أن الجملة الشرطية واقعة بعدها وهي قوله ‏{‏إذا رأوا ما يوعدون‏.‏ فسيعلمون‏}‏ ‏{‏وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى‏}‏ معطوف على موضع ‏{‏فليمدد‏}‏ لوقوعه موضع الخبر تقديره‏:‏ من كان في الضلالة مد أو يمد له الرحمن ويزيد أي يزيد في ضلال الضال بخذلانه، ويزيد المهتدين أي المؤمنين هدى ثباتاً على الاهتداء أو يقينا وبصيرة بتوفيقه ‏{‏والباقيات الصالحات‏}‏ أعمال الآخرة كلها أو الصلوات الخمس أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ‏{‏خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا‏}‏ مما يفتحر به الكافر ‏{‏وَخَيْرٌ مَّرَدّاً‏}‏ أي مرجعاً وعاقبة تهكم بالكفار لأنهم قالوا للمؤمنين ‏{‏أي الفرقين خير مقاماً وأحسن ندياً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 79‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏77‏)‏ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ‏(‏78‏)‏ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ الذى كَفَرَ بئاياتنا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً‏}‏ ثم‏.‏ وبضم الواو وسكون اللام في أربعة مواضع ههنا وفي الزخرف ونوح حمزة وعلي جمع ولد كأسد في أسد، أو بمعنى الولد كالعرب في العرب‏.‏ ولما كانت رؤية الأشياء طريقاً إلى العلم بها وصحة الخبر عنها استعملوا أرأيت في معنى أخبر والفاء أفادت التعقيب كأنه قال‏:‏ أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقيب حديث أولئك‏.‏ وقوله ‏{‏لأوتين‏}‏ جواب قسم مضمر ‏{‏أَطَّلَعَ الغيب‏}‏ من قولهم «اطلع الجبل» إذا ارتقى إلى أعلاه، الهمزه للاستفهام وهمزة الوصل محذوفة أي انظر في اللوح المحفوظ فرأى منيته ‏{‏أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً‏}‏ مؤثقاً أن يؤتيه ذلك أو العهد كلمة الشهادة‏.‏ وعن الحسن‏:‏ نزلت في الوليد بن المغيرة، والمشهور أنها في العاص بن وائل، فقد رُوي أن خباب بن الأرت صاغ للعاص بن وائل حلياً فاقتضاه الأجر فقال‏:‏ إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأن في الجنة ذهباً وفضة فأنا أقضيك ثُم فإني أوتي مالاً وولداً حينئذ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع وتنبيه على الخطأ أي هو مخطئ فيما تصوره لنفسه فليرتدع عنه ‏{‏سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ‏}‏ أي قوله والمراد سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله لأنه كما قال‏:‏ كتب من غير تأخير قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 18‏]‏ وهو كقوله

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة *** أي علم وتبين بالانتساب أني لست بابن لئيمة ‏{‏وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب‏}‏ نزيده من العذاب كما يزيد في الافتراء والاجتراء من المدد، يقال مده وأمده ‏{‏مَدّاً‏}‏ أكد بالمصدر لفرط غضبه تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 83‏]‏

‏{‏وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ‏(‏80‏)‏ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ‏(‏81‏)‏ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ‏(‏82‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ‏}‏ أي نزوي عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة والمعنى مسمى ما يقول وهو المال والولد ‏{‏وَيَأْتِينَا فَرْداً‏}‏ حال أي بلا مال ولا ولد كقوله‏:‏ ‏{‏ولقد جئتمونا فرادى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏ فما يجدي عليه تمينه وتألبه‏.‏

‏{‏واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً‏}‏ أي اتخذ هؤلاء المشركون أصناماً يعبدونها ‏{‏لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً‏}‏ أي ليعتزوا بآلهتهمِ ويكونوا لهم شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من العذاب ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع لهم عما ظنوا ‏{‏سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم‏}‏ الضمير للآلهة أي سيجحدون عبادتهم وينكرونها ويقولون والله ما عبدتمونا وأنتم كاذبون، أو للمشركين أي ينكرون أن يكونوا قد عبدوها كقوله‏:‏ ‏{‏والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ ‏{‏وَيَكُونُونَ‏}‏ أي المعبودون ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ على المشركين ‏{‏ضِدّاً‏}‏ خصماً لأن الله تعالى ينطقهم فيقولون‏:‏ يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك‏.‏ والضد يقع على الواحد والجمع وهو في مقابلة ‏{‏لهم عزاً‏}‏ والمراد ضد العز وهو الذل والهوان أي يكونون عليهم ضداً لما قصدوه أي يكونون عليهم ذلاً لا لهم عزاً، وإن رجع الضمير في ‏{‏سيكفرون‏}‏ ‏{‏ويكونون‏}‏ إلى المشركين فالمعنى ويكونون عليهم أي أعداءهم ضداً أي كفرة بهم بعد أن كانوا يعبدونها ثم عجب نبيه عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين‏}‏ أي خليناهم وإياهم من أرسلت البعير أطلقته أو سلطانهم عليهم بالإغواء ‏{‏تَؤُزُّهُمْ أَزّاً‏}‏ تغريهم على المعاصي إغراء والأز والهز إخوان ومعناهما التهييج وشدة الإزعاج‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 87‏]‏

‏{‏فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ‏(‏84‏)‏ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ‏(‏85‏)‏ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ‏(‏86‏)‏ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ‏}‏ بالعذاب ‏{‏إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً‏}‏ أي أعمالهم للجزاء وأنفاسهم للفناء، وقرأها ابن السماك عند المأمون فقال‏:‏ إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد‏.‏

‏{‏يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً‏}‏ ركبانا على نوق رحالها ذهب وعلى نجائب سروجها ياقوت ‏{‏وَنَسُوقُ المجرمين‏}‏ الكافرين سوق الأنعام لأنهم كانوا أضل من الأنعام ‏{‏إلى جَهَنَّمَ وِرْداً‏}‏ عطاشاً لأن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش وحقيقة الورد المسير إلى الماء فيسمى به الواردون، فالوفد جمع وافد كركب وراكب والورد جمع وارد‏.‏ ونصب ‏{‏يوم‏}‏ بمضمر أو يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يوصف أي اذكر يوم نحشر‏.‏ ذكر المتقون بأنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته كما يفد الوفود على الملوك تبجيلاً لهم، والكافرون بأنهم يساقون إلى النار كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء استخفافاً بهم ‏{‏لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة‏}‏ حال‏.‏ والواو إن جعل ضميراً فهو للعباد ودل عليه ذكر المتقين والمجرمين لأنهم على هذه القسمة، ويجوز أن يكون علامة للجمع كالتي في «أكلوني البراغيث» والفاعل من ‏{‏اتخذ‏}‏ لأنه في معنى الجمع ومحل ‏{‏من اتخذ‏}‏ رفع على البدل من واو ‏{‏يملكون‏}‏ أو على الفاعلية، أو نصب على تقدير حذف المضاف أي إلا شفاعة من اتخذ والمراد لا يمكلون أن يشفع لهم ‏{‏إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً‏}‏ بأن آمن‏.‏ في الحديث ‏"‏ من قال‏:‏ لا إله إلا الله كان له عند الله عهد ‏"‏ وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم‏:‏ ‏"‏ أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهداً ‏"‏ قالوا‏:‏ وكيف ذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ يقول كل صباح ومساء اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك وإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عهداً توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الذين كان لهم عند الله عهد فيدخلون الجنة ‏"‏ أو يكون من عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 92‏]‏

‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ‏(‏88‏)‏ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ‏(‏89‏)‏ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ‏(‏90‏)‏ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ‏(‏91‏)‏ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً‏}‏ أي النصارى واليهود ومن زعم أن الملائكة بنات الله ‏{‏لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً‏}‏ خاطبهم بهذا الكلام بعد الغيبة وهو التفات، أو أمر نبيه عليه السلام بأن يقول لهم ذلك؛ والإد العجب أو العظيم المنكر والإدة الشدة وأدّني الأمر أثقلني وعظم عليّ أدًّا ‏{‏تَكَادُ السماوات‏}‏ تقرب وبالياء نافع وعليّ ‏{‏يَتَفَطَّرْنَ‏}‏ وبالنون بصري وشامي وحمزة وخلف وأبو بكر‏.‏ الانفطار من فطره إذا شقه والتفطر من فطره إذا شققه ‏{‏مِنْهُ‏}‏ من عظم هذا القول ‏{‏وَتَنشَقُّ الأرض‏}‏ تنخسف وتنفصل أجزاؤها ‏{‏وَتَخِرُّ الجبال‏}‏ تسقط ‏{‏هَدّاً‏}‏ كسراً أو قطعاً أو هدماً، والهدة صوت الصاعقة من السماء وهو مصدر أي تهد هدّا من سماع قولهم أو مفعول له أو حال أي مهدودة ‏{‏أَن دَعَوْا‏}‏ لأن سموا ومحله جر بدل من الهاء في ‏{‏منه‏}‏ أو نصب مفعول له، علل الخرور بالهد والهد بدعاء الولد للرحمن، أو رفع فاعل ‏{‏هداًّ‏}‏ أي هدها دعاؤهم ‏{‏للرحمن وَلَداً وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً‏}‏ «انبغى» مطاوع بغى إذ طلب أي ما يتأتي له اتخاذ الولد وما يتطلب لو طلب مثلاً لأنه محال غير داخل تحت الصحة، وهذا لأن اتخاذ الولد لحاجة ومجانسة وهو منزه عنهما‏.‏ وفي اختصاص الرحمن وتكريره مرات بيان أنه الرحمن وحده لا يستحق هذا الاسم غيره، لأن أصول النعم وفروعها منه فلينكشف عن بصرك غطاؤه، فأنت وجميع ما عندك غطاؤه فمن أضاف إليه ولداً فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 96‏]‏

‏{‏إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ‏(‏93‏)‏ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ‏(‏94‏)‏ وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ‏(‏95‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏إِن كُلُّ مَن‏}‏ نكرة موصوفة صفتها ‏{‏فِى السماوات والأرض‏}‏ وخبر ‏{‏كل‏}‏ ‏{‏إِلاَّ ءَاتِي الرحمن‏}‏ ووحد ‏{‏آتى‏}‏ و‏{‏آتيه‏}‏ حملاً على لفظ ‏{‏كل‏}‏ وهو اسم فاعل من أتى وهو مستقبل أي يأتيه ‏{‏عَبْداً‏}‏ حال أي خاضعاً ذليلاً منقاداً، والمعنى ما كل من في السموات والأرض من الملائكة والناس إلا هو يأتي الله يوم القيامة مقراً بالعبودية، والعبودية والبنوة تتنافيان حتى لو ملك الأب ابنه يعتق عليه ونسبة الجميع إليه نسبة العبد إلى المولى فكيف يكون البعض ولداً والبعض عبداً‏!‏ وقرأ ابن مسعود ‏{‏آت الرحمن‏}‏ على أصله قبل الإضافة ‏{‏لَّقَدْ أحصاهم وَعَدَّهُمْ عَدّاً‏}‏ أي حصرهم بعلمه وأحاط بهم ‏{‏وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً‏}‏ أي كل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفرداً بلا مال ولا ولد أو بلا معين ولا ناصر‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً‏}‏ مودة في قلوب العباد قال الربيع يحبهم ويحببهم إلى الناس وفي الحديث يعطى المؤمن مِقَةً في قلوب الأبرار ومهابة في قلوب الفجار‏.‏ وعن قتادة وهرم‏:‏ ما أقبل العبد إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه‏.‏ وعن كعب‏:‏ ما يستقر لعبد ثناء في الأرض حتى يستقر له في السماء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 98‏]‏

‏{‏فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ‏(‏97‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنَّمَا يسرناه‏}‏ سهلنا القرآن ‏{‏بِلَسَانِكَ‏}‏ بلغتك حال ‏{‏لِتُبَشّرَ بِهِ المتقين‏}‏ المؤمنين ‏{‏وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً‏}‏ شداداً في الخصومة بالباطل أي الذين يأخذون في كل لديد أي شق من المراء والجدال جمْع ألدّ يَراد به أهل مكْة ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ‏}‏ تخويف لهم وإنذار ‏{‏هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ‏}‏ أي هل تجد أو ترى أو تعلم والإحساس الإدراك بالحاسة ‏{‏أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً‏}‏ صوتاً خفياً ومنه الركاز أي لما أتاهم عذابنا لم يبق شخص يرى ولا صوت يسمع يعني هلكوا كلهم فكذا هؤلاء إن أعرضوا عن تدبر ما أنزل عليك فعاقبتهم الهلاك فليهن عليك أمرهم، والله أعلم‏.‏

سورة طه

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏طه ‏(‏1‏)‏ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى ‏(‏2‏)‏ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏طه‏}‏ فخم الطاء لاستعلائها وأمال الهاء، أبو عمرو، وأمالهما حمزة وعلي وخلف وأبو بكر، وفخمهما على الأصل غيرهم‏.‏ وما رُوي عن مجاهد والحسن والضحاك وعطاء وغيرهم أن معناه يا رجل فإن صح فظاهر وإلا فالحق ما هو المذكور في سوة البقرة ‏{‏مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان‏}‏ إن جعلت ‏{‏طه‏}‏ تعديداً لأسماء الحروف فهو ابتداء كلام، وإن جعلتها اسماً للسورة احتملت أن تكون خبراً عنها وهي في موضع المبتدأ، و‏{‏القرءان‏}‏ ظاهر أوقع موقع المضمر لأنها قرآن وأن يكون جواباً لها وهي قسم ‏{‏لتشقى‏}‏ لتتعب لفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا، أو بقيام الليل فإنه رُوي أنه عليه السلام صلى بالليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل‏:‏ أبق على نفسك فإن لها عليك حقاً أي ما أنزلناه لتنهك نفسك بالعبادة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة ‏{‏إِلاَّ تَذْكِرَةً‏}‏ استثناء منقطع أي لكن أنزلناه تذكرة أو حال ‏{‏لّمَن يخشى‏}‏ لمن يخاف الله أو لمن يئول أمره إلى الخشية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 9‏]‏

‏{‏تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا ‏(‏4‏)‏ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ‏(‏5‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ‏(‏6‏)‏ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ‏(‏7‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ‏(‏8‏)‏ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏تَنْزِيلاً‏}‏ بدل من ‏{‏تَذْكِرَةٌ‏}‏ إذا جعل حالاً ويجوز أن ينتصب ب «نزل» مضمراً أو على المدح أو ب ‏{‏يخشى‏}‏ مفعولاً أي أنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله ‏{‏مّمَّنْ خَلَق الأرض والسماوات‏}‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ يتعلق ب ‏{‏تَنْزِيلاً‏}‏ صلة له ‏{‏العلى‏}‏ جمع العليا تأنيث الأعلى ووصف السماوات بالعلى دليل ظاهر على عظم قدرة خالقها ‏{‏الرحمن‏}‏ رفع على المدح أي هو الرحمن ‏{‏عَلَى العرش‏}‏ خبر مبتدأ محذوف ‏{‏استوى‏}‏ استولى‏.‏ عن الزجاج، ونبه بذكر العرش وهو أعظم المخلوقات على غيره‏.‏ وقيل‏:‏ لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك جعلوه كناية عن الملك فقال استوى فلان على العرش أي ملك وإن لم يقعد على السرير ألبتة وهذا كقولك «يد فلان مبسوطة» أي جواد وإن لم يكن له يد رأساً، والمذهب قول علي رضي الله عنه‏:‏ الاستواء غير مجهول والتكييف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة لأنه تعالى كان ولا مكان فهو على ما كان قبل خلق المكان لم يتغير عما كان‏.‏

‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ خبر ومبتدأ ومعطوف ‏{‏وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ أي ذلك كله ملكه ‏{‏وَمَا تَحْتَ الثرى‏}‏ ما تحت سبع الأراضين أو هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة ‏{‏وَإِن تَجْهَرْ بالقول‏}‏ ترفع صوتك ‏{‏فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر‏}‏ ما أسررته إلى غيرك ‏{‏وَأَخْفَى‏}‏ منه وهو ما أخطرته ببالك أو ما أسررته في نفسك وما ستسره فيها ‏{‏الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسماء الحسنى‏}‏ أي هو واحد بذاته وإن افترقت عبارات صفاته رد لقولهم إنك تدعو آلهة حين سمعوا أسماءه تعالى والحسنى تأنيث الأحسن‏.‏

‏{‏وَهَلْ‏}‏ أي وقد ‏{‏أَتَاكَ حَدِيثُ موسى‏}‏ خبره قفاه بقصة موسى عليه السلام ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة بالصبر على المكاره ولينال الدرجة العليا كما نالها موسى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ‏(‏10‏)‏ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ‏(‏11‏)‏ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ رَأَى‏}‏ ظرف لمضمر أي حين رأى ‏{‏نَارًا‏}‏ كان كيت وكيت أو مفعول به لاذكر‏.‏ رُوي أن موسى عليه السلام استأذن شعيباً في الخروج إلى أمه وخرج بأهله فولد له ابن في الطريق في ليلة مظلمة مثلجة، وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصلد زنده فرأى عند ذلك ناراً في زعمه وكان نوراً ‏{‏فَقَالَ لأَِهْلِهِ امكثوا‏}‏ أقيموا في مكانكم ‏{‏إِنّى آنَسْتُ‏}‏ أبصرت ‏{‏نَارًا‏}‏ والإيناس رؤية شيء يؤنس به ‏{‏لعلِّي ءاتيكم منها‏}‏ بنى الأمر على الرجاء لئلا يعد ما ليس يستيقن الوفاء به ‏{‏بِقَبَسٍ‏}‏ نار مقتبسة في رأس عود أو فتيله ‏{‏أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى‏}‏ ذوي هدى أو قوماً يهدونني الطريق‏.‏ ومعنى الاستعلاء في ‏{‏عَلَى النار‏}‏ أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أتاها‏}‏ أي النار وجد ناراً بيضاء تتوقد في شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها، وكانت شجرة العناب أو العوسج ولم يجد عندها أحداً‏.‏ ورُوي أنه كلما طلبها بعدت عنه فإذا تركها قربت منه فثم ‏{‏نُودِىَ‏}‏ موسى ‏{‏يَا موسى إِنّى‏}‏ بكسر الهمزة أي نود فقيل ‏{‏يَا موسى إِنّى‏}‏ أو لأن النداء ضرب من القول فعومل معاملته، وبالفتح‏:‏ مكي وأبو عمرو أي نودي بأني ‏{‏أَنَاْ رَبُّكَ‏}‏ ‏{‏أَنَاْ‏}‏ مبتدأ أو تأكيد أو فصل وكرر الضمير لتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة‏.‏ رُوي أنه لما نودي يا موسى قال‏:‏ مَن المتكلم‏؟‏ فقال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَنَاْ رَبُّكَ‏}‏‏.‏ فعرف أنه كلام الله عز وجل بأنه سمعه من جميع جهاته الست وسمعه بجميع أعضائه‏.‏

‏{‏فاخلع نَعْلَيْكَ‏}‏ انزعهما لتصيب قدميك بركة الوادي المقدس، أو لأنها كانت من جلد حمار ميت غير مدبوغ، أو لأن الحفوة تواضع لله ومن ثم طاف السلف بالكعبة حافين، والقرآن يدل على أن ذلك احترام للبقعة وتعظيم لها فخلعهما وألقاهما من وراء الوادي ‏{‏إِنَّكَ بالواد المقدس‏}‏ المطهر أو المبارك ‏{‏طُوًى‏}‏ حيث كان منوّن‏:‏ شامي وكوفي لأنه اسم علم للوادي وهو بدل منه، وغيرهم بغير تنوين بتأويل البقعة‏.‏ وقرأ أبو زيد بكسر الطاء بلا تنوين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 17‏]‏

‏{‏وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ‏(‏13‏)‏ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ‏(‏14‏)‏ إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ‏(‏15‏)‏ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ‏(‏16‏)‏ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَا اخترتك‏}‏ اصطفيتك للنبوة، ‏{‏وإنا اخترناك‏}‏ حمزة ‏{‏فاستمع لِمَا يُوحَى‏}‏ إليك للذي يوحى أو للوحي، واللام يتعلق ب ‏{‏استمع‏}‏ أو ب ‏{‏اخترتك‏}‏ ‏{‏إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ فاعبدنى‏}‏ وحدني وأطعني ‏{‏وأقم الصلاة لذكري‏}‏ لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار أو لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها، أو لأن أذكرك بالمدح والثناء، أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري، أو لتكون لي ذاكراً غير ناس، أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة لقوله‏:‏ ‏{‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏ وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها وذا يصح بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي، وهذا دليل على أنه لا فريضة بعد التوحيد أعظم منها‏.‏

‏{‏إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ‏}‏ لا محالة ‏{‏أَكَادُ‏}‏ أريد عن الأخفش وقيل صلة ‏{‏أُخْفِيهَا‏}‏ قيل‏:‏ هو من الأضداد أي أظهرها أو أسترها عن العباد فلا أقول هي آتية لإرادتي إخفاءها، ولولا ما في الأخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من الحكمة وهو أنهم إذا لم يعلموا متى تقوم كانوا على وجل منها في كل وقت لما أخبرت به ‏{‏لتجزى‏}‏ متعلق ب ‏{‏ءاتِيَةٌ‏}‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى‏}‏ بسعيها من خير أو شر ‏{‏فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا‏}‏ فلا يصرفنك عن العمل للساعة أو عن إقامة الصلاة أو عن الإيمان بالقيامة فالخطاب لموسى والمراد به أمته ‏{‏مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا‏}‏ لا يصدق بها ‏{‏واتبع هَوَاهُ‏}‏ في مخالفة أمره ‏{‏فتردى‏}‏ فتهلك ‏{‏وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى‏}‏ «ما» مبتدأ و‏{‏تِلْكَ‏}‏ خبره وهي بمعنى هذه و‏{‏بِيَمِينِكَ‏}‏ حال عمل فيها معنى الإشارة أي قارة أو مأخوذة بيمينك‏.‏ أو ‏{‏تِلْكَ‏}‏ موصول صلته ‏{‏بِيَمِينِكَ‏}‏ والسؤال للتنبيه لتقع المعجزة بها بعد التثبت، أو للتوطين لئلا يهوله انقلابها حية، أو للإيناس ورفع الهيبة للمكالمة‏.‏